أسبوع على انفجار بيروت

منى فواز, منى حرب, هويدا الحارثي, أحمد غربية - 10.08.2020
أسبوع على انفجار بيروت
عمال مهاجرون يطالعون الدمار الذي طال المرفأ من الطريق السريع المطل عليه (تصوير: منى حرب)
نكتب هذه الخاطرة القصيرة وأمواج الصدمة الناتجة عن انفجار مرفأ بيروت في 4 آب، 2020 ما زالت تتوغل في أعماق كل واحدٍ منا. ما زلنا نحاول استيعاب الخسائر الجسيمة التي أُوقعت بمديتنا وسكانها. ألفان وسبعمئة 2,700 طنٍ من مادة نيترات الأمونيوم خُزّنت باستهتار في إحدى مستودعات المرفأ على مقرُبةٍ من الأحياء السكنية لمدة ست سنوات بعلم سلطات المرفأ التي توالت على إدارته وموظفي الجمارك وغيرهم من الموظفين الحكوميين (وغير الحكوميين). انفجرت مادة النيترات وكأنها تعلن بصوتٍ مدوٍّ نهاية مرحلةٍ من تاريخ لبنان، إذ لا يمكن للنظام الفاسد الذي حكم البلاد منذ الحرب الأهلية أن يسقط بسلام.  لم يمرّ أسبوع على الانفجار بعد، وما زالت المدينة في حالة حداد على قتلاها، الصغار منهم والكبار، بينما توقفت معظم فرق الإنقاذ عن البحث عن المفقودين. جثث الضحايا مكوّمة في المشارح تنتظر من يتعرّف عليها من الأهل والأحبة. ورنين الهواتف التي تحمل أخباراً مطمئنة لبعض الأهالي والأصدقاء وتؤكد مخاوف الفقد والألم لدى البعض الآخر يملأ الأجواء. كما تمتلئ المدينة بأصوات صرير الزجاج المحطّم وشوارعها بأكوام النفايات والحطام والمقتنيات الشخصية. يحاول البيروتيون على اختلاف أجيالهم التي عاشت تجارب متراكمة من الحروب العبثية حبس ذكريات الصدمات السابقة وإقناع أنفسهم وصغارهم أنهم ليسوا محكومون باستنساخ حلقات العنف الماضية. ولكن الفقد كبير وقد نال من كل طبقات المجتمع؛ العمال اللبنانيون والمهاجرون الذين يعملون في المرفأ وحرّاس المؤسسات المجاورة له، والزوجات والأزواج والآباء والأمهات والبنات والأبناء الذين يعملون بالقرب من المرفأ أو كانوا مارّين من هناك، أو الذين كانوا يجلسون في منازلهم آمنين يمارسون أعمالهم اليومية. تُحصى خسائر الانفجار البشرية ب 220 قتيل و 7 آلاف جريح، وما زال مصير 110 مفقودٍ مجهولاً حتى الآن (بحسب بيان حاكم بيروت يوم الأحد 9 آب، 2020). ومن المتوقع أن ترتفع هذه الأعداد في الأيام المقبلة.
دمّر الانفجار 80،000 منزل وترك آلاف العائلات بلا مأوى. فالأحياء المحيطة بالمرفأ عبارة من فسيفساء من الأنسجة الحضرية وهي تضمّ مبانٍ سكنية وتجارية ومؤسساتية ودينية، التاريخية منها والجديدة، والبسيطة منها والفخمة. نُسِفت الشقق السكينة وقُطّعت الأرزاق – من متاجر البقالة الصغيرة إلى المطاعم الراقية والحانات وورش العمل والحرفيين والمكاتب وغرف الإيجار. لن تستطيع المدراس والمستشفيات ودور الحضانة القيام بواجبات التعليم والمداواة والرعاية بعد اليوم.
الكرنتينا (تصوير: منى فواز)
الكرنتينا (تصوير: منى فواز)
الكرنتينا (تصوير: منى فواز)
الكرنتينا (تصوير: منى فواز)
وإن عمّت آثار الانفجار أرجاء المدينة فإن رقعة الضرر الأكبر محصورة في الأحياء المحيطة بالمرفأ، وتشمل: حييّ البداوي والكرنتينا التاريخيين للمدينة اللذين يأويان طبقتها العاملة، وأحياء الجميزة والجعيتاوي ومار مخايل التي تتعرّض للتغيّر الديموغرافي منذ عقد على الأقل. لم تقلّ تجربة الكرنتينا مع الانفجار – وهي التي شهدت أولى مجازر الحرب الأهلية الأولى وتعدّ مستودعاً بشرياً تاريخياً للعمّال – قسوة، إذ ضرب سكانها الضعفاء وبيوتها الهشّة فسوّى بعضها أرضاً. وإلى شرق المرفأ مباشرةً، هناك الجميزة ومار مخايل، حيث تقف المباني التراثية صامدة وحدها منذ زمن الخلافة العثمانية والانتداب الفرنسي، والتي لم تسلم أكثرها من الانفجار فتصدّعت وتحطّمت شُرفها وانهارت واجهاتها. كل مبنىً هنا وفي المحيط خسر نوافذ وأبواب وما سوى ذلك. أما في قلب بيروت التاريخي الذي تحوّل إلى وسط بيروت الراقي، تشظّت واجهات المباني الزجاجية الضخمة وإطارات النوافذ مبدِّدةً أموالاً طائلة تقدّر بملايين الدولارات الخاصة والعامة. أما مرفأ بيروت، شريان الحياة الأساسي للمدينة الذي يتدفق منه حوالي 80% من المستوردات الغذائية الضرورية، فحجم الضرر فيه لا يُقدّر ومن المتوقع أن تستغرق عملية إصلاحه بالكامل سنوات طويلة. امتدّ تأثير الانفجار إلى جميع المناطق البيروتية وتسرّب إلى خارج حدود بيروت الإدارية، فطال المنازل والمكاتب والمتاجر في بدارو والجناح والغبيري وفرن الشباك والدورة وبرج حمود وسن الفيل حيث تحطّمت الألواح الزجاجية وانفجرت الأبواب الخشبية والنوافذ.
صدعٌ على جدار مبنى قديم في الكرنتينا (تصوير: سهى منيمنة)
صدعٌ على جدار مبنى قديم في الكرنتينا (تصوير: سهى منيمنة)
بيوت مكشوفة بعد انهيار واجهة مبنى في الجعيتاوي (تصوير: منى فواز)
بيوت مكشوفة بعد انهيار واجهة مبنى في الجعيتاوي (تصوير: منى فواز)
مرةً أخرى، وللأسف، كان أول من هرع للاستجابة لهذه الكارثة سكان المدينة. غصّت الشوارع بالمتطوعين الذين شرعوا في تنظيفها من الحطام والأنقاض مسلّحين بالمكانس والمجارف وراحوا يوزّعون الماء والطعام على الناس. بعضهم كان يساعد أصدقاء له والبعض الآخر حضر للمساعدة تعبيراً عن تضامنه. وفي مقابل هذا التحرك الحيّ كانت استجابة الحكومة المركزية والمحلية بطيئة إذ فشلت في وضع خطة طوارئ عاجلة أو تنظيم استراتيجية فعّالة للإغاثة. اندس موظفو الدولة بين وفود الجهات الفاعلة على الأرض بدلاً من لعب دورٍ تنسيقي؛ فعملت عناصر الشرطة والدفاع المدني جنباً إلى جنب مع أفراد منتمين إلى الأحزاب السياسية والمنظّمات غير الربحية والمجموعات الدينيّة والإنسانيّة والكشافة والطلاّب والمتطوّعين الجامعيين وغيرهم.
متطوعون ينظفون شوارع مار مخايل من الركام (تصوير: منى فواز)
متطوعون ينظفون شوارع مار مخايل من الركام (تصوير: منى فواز)
متطوعون في الجميزة (تصوير: منى حرب)
متطوعون في الجميزة (تصوير: منى حرب)
وفي موازاة ذلك، تنامى غضب الشعب مع إداركه لفشل النظام السياسي اللبناني الذريع في حماية أرزاقه. وانعكس انعدام ثقته بالممثلين الحكوميين على الأحاديث في كل مكان. فعندما دخل أولئك إلى الأحياء المتضررة قوبلوا بالشتائم والتعدي الجسدي. توالت الأزمات على الشعب حتى أنهكته، من إغلاق شامل بسبب جائحة كوفيد-19 استمرّ شهوراً عدّة إلى انهيار مالي مَحَق مدّخراتهم وحدَّ من القدرة الشرائية عند شرائح واسعة من المجتمع، إلى خطر نقص المواد الغذائية الذي يهدّد حياتهم وازدياد المخاوف من ارتفاع نسب الفقر التي تبلغ الآن 50% بحسب البنك الدولي.  وقد يختلف البعض حول محفّزات هذا العمل الإجرامي، ولكن الغالبية أعربت عن غضبها من استهتار ممثّليها الذين تعاقبوا على الحكم طوال عقود من الحوكمة غير المسؤولة. كانت تجربة الانفجار بالنسبة للكثيرين بمثابة حرب على الناس، وعاد الشارع يغلي  بدعوات الاحتجاج تماشياً مع ما شهدته المدينة نهاية الأسبوع.
مظاهرة يوم السبت 8 آب تخللها إطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي على المتظاهرين الذين أصيب منهم ما يزيد عن 700 شخص (تصوير: دنيا سلامة)
مظاهرة يوم السبت 8 آب تخللها إطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي على المتظاهرين الذين أصيب منهم ما يزيد عن 700 شخص (تصوير: دنيا سلامة)
وبالنظر إلى المستقبل، يتجلّى لنا تعثُّر عملية التعافي، والخوف من ترسيخ عملية إعادة الإعمار بعد الانفجار للقوى التي أوصلت أحياء بيروت إلى هذا الدمار. نستحضر في هذا السياق عملية إعادة إعمار قلب بيروت التاريخي في بداية التسعينات إبّان الحرب الأهلية التي عزّزت الإنقسامات الناجمة عن الحرب في العاصمة، فقطّعت أوصالها عبر شبكة طرق سريعة فصلت القلب عن باقي المناطق ونهبت حقوق أصحاب العقارات الصغيرة في وسط البلد وسوّت الأبنية التراثية وأخلتها من معانيها الاجتماعية والجماعية ثم سلّمت إدارتها إلى  سوليدير، شركة العقارات الخاصة التي كانت تسعى إلى المضاربة بهدف تحقيق أقصى حدّ من الاستثمارات العقارية لمساهميها. فكانت النتيجة التي نراها اليوم، "وسط بلد" خالٍ من الحياة تتملّكه المصارف وبعض المستثمرين المضاربين بات مسرحاً لاعتصامات المتظاهرين الغاضبين لا أكثر.
أحد مصارف وسط بيروت العديدة التي تهشمت واجهاتها الزجاجية (تصوير: منى حرب)
أحد مصارف وسط بيروت العديدة التي تهشمت واجهاتها الزجاجية (تصوير: منى حرب)
برج ستاركو، أحد معالم البناء الحديث في وسط بيروت، الذي تعرّض لضرر بالغ (تصوير: منى حرب)
برج ستاركو، أحد معالم البناء الحديث في وسط بيروت، الذي تعرّض لضرر بالغ (تصوير: منى حرب)

علاوةً على ذلك، حوّلت مشاريع إعادة إعمار لبنان بعد الحرب الإسرائيلية في تموز 2006 أحياء ضواحي بيروت وجنوب لبنان إلى منطقة حزبية تسلّم على إثرها حزب الله كل مهام مشروع ما بعد الحرب، كما أنهت النقاش بشأن علاقة الأحياء كحارة حريك وغيرها بمناطق أخرى من المدينة، فحالت دون طرح حوار مجتمعي عن قابلية الحياة في المدينة وإمكانية تصوّر  تعافٍ حضري يقدّم الممارسات اليومية على المصالح الرأسمالية والمخاوف الأمنية.

إن السيناريو المرعب الذي يلوح في الأفق سيجعل من عملية التعافي بعد الانفجار فرصة لتعزيز الدمار الناجم عنه، وقد يؤدي إلى تدهور الأحياء السكنية الأكثر ضرراً تدريجياً بحيث تواصل الدورة الاقتصادية التالية عملية التغيّر الديموغرافي المستمرّة في القضاء على فئة كبار السن المعدمة وطاقة الشباب المناضل والقطاعات الصناعية الصغيرة. إذا تدفقت المساعدات ورؤوس الأموال دون مراعاة الناس فستسرّع من وتيرة التغيّر الديموغرافي وستقضي على ركيزة هامة من تاريخ بيروت.

في مدينة تخلّت عنها المؤسسات العامة ووطن يئن تحت وطأة الإفلاس وسطوة الطائفية السياسية، يكافح الكثيرون لترتيب أمورهم المعيشية من خلال شبكة اجتماعية ومكانية للدعم والتبادل المشترك. ولا بد من أن تكون هذه الشبكة نقطة إنطلاق عملية التعافي، أياً كانت. يجب استعادة وتمكين الشبكات الاجتماعية والاقتصادية، الرسمية وغير الرسمية والملموسة والمادية والمعنوية على حد السواء، بما فيها المواقع التي تحمل ذكريات مشتركة ودلالات اجتماعية. كما يجب تصوّر التعافي كعملية مبنية على المجتمع تتميّز بالشمولية والتشاركية والوعي البيئي، وليس مجرّد عونٍ إنساني أو مبادرة إغاثة، ثم العمل على وضعها على المسار الصحيح. فهي عملية لا تعالج البنى المادّية والملموسة فحسب بل أوجه الظلم ومواطن الضعف التي كانت موجودة قبل الانفجار بهدف بناء مجتمع أقوى تربطه الأواصر الاجتماعية والنشاطات الاقتصادية المحلية والتراث الثقافي الثري.