بيروت: مدينة للبيع؟

تقدّم هذه الدراسة لمحة شاملة عن التحوّلات التي طرأت على إنتاج وتبادل المساكن في بيروت في فترة ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية.

انطلق البحث من مسح شامل لجميع المباني التي طوِّرت في بيروت بين العامين 1996 و2019، بالاستناد إلى تصاريح البناء الصادرة خلال هذه الفترة. وأعدَّت خرائط لنحو 3572 موقعاً، وجُمعت معلومات إضافية عن 1634 مشروعاً سكنياً حُدِّدت خلال العمل الميداني. تتضمّن البيانات التي جُمِعت السمات الاجتماعية والمادية والبيئية، ما ساعد في فهم شامل لاتجاهات حركة تطوّر بيئة بيروت العمرانية خلال الفترة المدروسة. أيضاً أجريت دراسة نماذج البناء المختلفة في ضوء التحوّلات الكبرى في الاقتصاد السياسي اللبناني، والأحداث الإقليمية والعالمية التي تؤثّر على ممارسات وحركة رأس المال في قطاع البناء. وساهمت هذه المعطيات في تمكين الباحثين من استخلاص نتائج مهمّة حول قطاع الإسكان وتنظيمه. إلى ذلك، ينطلق البحث من الفاعلين في القطاع للكشف عن الديناميات التي تنظّم إنتاج الإسكان وتبادله، من خلال التنظير حول الاتجاهات المتغيّرة في قطاع التطوير السكني. وتشير هذه المقدّمة إلى ثلاث خصائص للبيئة العمرانية السكنية في بيروت، فيما يمكن الإطلاع على مزيد من النتائج في قاعدة بيانات البيئة العمرانية في بيروت، وتصفّح بعض معطيات قاعدة البيانات مباشرة.

إدارة: منى فواز

تنسيق العمل الميداني وإدارة البيانات ومعالجتها كمياً: ميشال معوّض

مسؤول قاعدة بيانات نظم المعلومات الجغرافية: شريف ترحيني

خرائط وتصوير البيانات: نور زغبي فارس وإسماعيل حطيط

دراسات حالة في الأحياء:عبير زعتري (عائشة بكار) وسهى منيمنة (طريق الجديدة)

بحث مكتبي حول المطورين: يارا نحلة

طلاب مساعدون في المشروع: هيفا أبو ابراهيم وإيزابيلا سرحان

يود فريق مختبر المدن في بيروت بأكمله أن يشكر الباحثات الميدانيات اللواتي اكتشفن شوارع بيروت لمدة أربعة أشهر خلال خريف عام 2019: عبير زعتري، وريم سلامة، ويارا نحلة، ويسرى بيطار، وزينب شمص. تحضر في بالنا ذكرى إيفا خليل التي كانت ستفخر بثمار عملها

 تنطلق هذه الدراسة من بيانات جُمعت ونُشرت في قاعدة بيانات البيئة العمرانية في بيروت

التطوير العقاري ضمن سياقه

مرَّت عملية التطوير العقاري في لبنان بمراحل عدّة منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية (1990)، وتزامنت مع دورات من الازدهار والركود، انتهت بأزمة مستمرّة منذ ست سنوات. إن دراسة الترابط بين عدد تراخيص البناء في بيروت من جهة، والإطار التنظيمي اللبناني والاتجاهات الإقليمية والأحداث الدولية من جهة أخرى، كافية لتقديم إيضاحات قوّية حول القوى المؤثّرة على اتجاهات البناء في المدينة. يُظهِر الرسم البياني آثار التغييرات التنظيمية في قوانين البناء والملكيّة ودورها في تشجيع البناء، ويسلّط الضوء على كثافة تدخّلات المصرف المركزي اللبناني بدءاً من العام 1997، حين سعى إلى تحفيز المصارف على الدخول إلى السوق العقارية، إمّا مباشرة أو من خلال تسهيل المعاملات والتبادلات في هذا القطاع، بحيث أدّى دوراً حاسماً في توجيه حركة رأس المال المحلّي والخارجي نحو قطاع البناء. مع ذلك، تتأثّر تدفّقات رأس المال، بشدّة، بمجموعة من القيود، التي تكبح حركة دخول رأسمال المال إلى البلد، وتفرضها سياسات الخزانة الأميركية خصوصاً بعد العام 2015، بالإضافة إلى السياسات التي تقيّد سفر واستثمارات مواطني الخليج العربي في الدولة اعتباراً من العام 2012، وكذلك تبعات الحروب المحلّية والإقليمية وآثارها على هذا القطاع (كالعدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006، والحرب في سوريا اعتباراً من العام 2011). عموماً، تُظهر هذه الاتجاهات التأثير البالغ للسياسات العامّة اللبنانية على قطاع الإسكان، وضعفه الشديد أمام التوجّهات الإقليمية، فيما يشير التأثير القوي للتدفّقات المالية وحركة تطوّر القطاع إلى اتجاه يكرِّس القيمة الاستثمارية للملكية على حساب القيمة الاجتماعية للأرض بوصفها مأوى.

 

عن الشغور

تعدُّ معدّلات الشغور مرتفعة جدّاً في كافة أنحاء المدينة، لا سيّما فيما يتعلّق بالشقق الفخمة التي تتجاوز معدّلات الشغور فيها نسبة 50%. ونعني بالشغور الشقق التي تبيَّن أثناء المسح أنها غير مشغولة وغير مفروشة. تشمل هذه الشقق وحدات سكنية يُحجِم المطوّرون عن بيعها بانتظار انتعاش السوق من جديد، وكذلك الشقق التي اشتراها مغتربون بالدرجة الأولى وأحياناً بعض الأثرياء اللبنانيين المقيمين، باعتبارها استثمارات طويلة الأجل.

لا يمكن تفسير الشغور بمعزل عن التقدير الاقتصادي للأرض بوصفها استثماراً رابحاً للنخب الثرية المحلّية والوافدة. ويعدُّ هذا الاتجاه شائعاً في لبنان وفي العديد من الدول التي ترتفع فيها مخاطر انخفاض قيمة العملة. تتضخّم معدّلات هذا الشغور نتيجة خطاب سائد يروّج له "اللوبي العقاري" النافذ، الذي ترسّخ نفوذه خلال العقد الماضي وتمأسس من خلال إنشاء وكالات عامّة مثل المؤسّسة العامّة لتشجيع الاستثمارات في لبنان "إيدال"، ومجموعات ضغط، مثل جمعية المطوّرين العقاريين اللبنانيين "ريدال". ونظراً إلى العلاقات القويّة التي تربط "اللوبي العقاري" بالطبقتين السياسية والمصرفية، وبالكاد يمكن التمييز بينها، روّجت الصحافة اللبنانية بكثافة لهذا القطاع وسوّقت لنجاحاته وصلابته من خلال العديد من الإعلانات والمؤتمرات والنشاطات والمناسبات.

 يتعزّز الشغور أيضاً من خلال النظام الضريبي الذي يعفي الشقق الفارغة من ضرائب البلدية والملكيّة. في المقابل، يؤدّي الاستثمار في الأرض إلى تكبيد الغالبية العظمى من الأسر اللبنانية ثمناً باهظاً، ومفاقمة معاناتها بفعل العبء الثقيل لتكاليف المسكن الذي يستنزف من ميزانتيها ويضاف إلى نفقاتها الأخرى. وللمفارقة، تكافح آلاف الأسر اللبنانية يومياً بسبب ساعات التنقّل الطويلة وأسعار السكن الباهظة التي تدفع بالكثير من الأزواج اليافعين إلى الهجرة و/ أو تأخير خططهم الحياتية، في حين أن واحدة من كلّ أربع شقق في المدينة تبقى شاغرة.

مطورو بيروت

من المهم الالتفات إلى التجذّر العميق لممارسات التطوير العقاري في المنظومة الاجتماعية والسياسية للمجتمع، وبمختلف مستويات إدارته، لفهم كيف يتمّ إنتاج التقسيم المناطقي للفضاء. تشير الدراسة إلى دور العائلات والأحزاب السياسية والمؤسّسات الدينية في توجيه المعاملات الاقتصادية وعمليات الترخيص الرسمية، ما تعكس أهمّية رأس المال الاجتماعي والرمزي، بالنسبة إلى فاعلين محدّدين تمكّنوا بواسطته من فرض أنفسهم كمطوِّرين عقاريين طويلي الأجل، وهو رأسمال جُمِع وتراكم من خلال عدد محدود من الفاعلين الذي يعدّون مطوِّرين راسخين وناجحين. إلى ذلك، يتّبع تنظيم الأنشطة العمرانية منطق الفصل الطائفي والطبقي المُهيمن على التفاعلات اليومية في لبنان، بحيث يستمرّ التقوقع الطائفي في السيطرة على الجغرافيا الحضرية، إذ يرتبط الانتماء الطائفي للمطوِّر بشكل مباشر مع توزّع أنشطته. من هنا، يمكن قراءة علامات الانقسام المناطقي للحرب الأهلية وما يتبعها من تواترات سياسية – طائفية، من خلال توزّع الأنشطة العمرانية. في الجهة المقابلة، ثمّة نخبة مالية مؤلّفة من وكالات التطوير العقاري التابعة بشكل مباشر أو غير مباشر للمصارف وشركات الاستثمار والمستثمرين الأثرياء، وهي تعمل وفقاً لتقسيم مناطقي مبني على منطق طبقي، وتستأثر بالمناطق المطلّة على البحر وبعض الأحياء الراقية في الأشرفية.